شلة الأصحاب, حيث يكون للألم طعم جميل, وللمعاناة وجه مبتسم, لا حدود للمزاح بينهم, ولا حرج في الهجوم الذي يشل الحركة أحيانا, قرر ثلاثتهم وهم على مشارف نهاية يوم عملي في المدينة زيارة زميلهم الرابع الدكتور أخصائي العيون في عيادته قبل التوجه للقرية, حين وصلوا لعيادته سجلوا أسماءهم في دفتر المقابلات وأخبروا الموظفة أن لديهم مشوارا ضروريا لا يستحمل التأخير, وعليها أن تخبر الدكتور بانتظارهم ولو تأخروا لساعة فإنهم سيأتون لا محالة ... بعد دقائق يأتي صوت الدكتور:
ــ ( إنتصار ؟ عندك مرضى باقيين؟)
ــ ( أيوة يا دكتور .. تلاتة مسجلين أسماءهم).
ــ (طيب, دخليهم واحد واحد. )
ــ (يا دكتور, هم سجلوا أساميهم وقالوا عندهم مشوار مهم, وطلبوا منك أن تنتظرهم وحا يرجعوا سريع)
ــ (طيب طيب, لما يجوا دخليهم طوالي, لأنو زمني خلاص انتهى المفروض أمشي)
تشاغل الدكتور بقراءة جريدة, حتى شعر بالضيق وضغط على الإسبيكر:
ــ (انتصار, يا انتصار؟ الناس ديل لسة ما جو؟)
ــ (لسة يا دكتور والله ... بس هم أكدوا على حضورهم وقالوا ليك يا دكتور ضروري تنتظرنا).
رضخ بامتعاض, خاصة أن مبلغ المقابلة لثلاثة يقلل من مصاريف اليوم, فتصفح الجريدة للمرة الثانية, وبعد مرور نصف ساعة شعر بملل شديد, واتصل بانتصار مرة ثالثة:
ــ (انتصار؟ الحاصل شنو؟ الناس ديل إتأخروا شديد, هسة أنا قعدت ساعة ونص بالتمام والكمال, ما خلو ليك رقم جوال عشان نتصل عليهم؟)
ــ (أبدا يا دكتور, هم كانوا مستعجلين وسجلوا أساميهم وقالوا لي ندفع وللا بعدين؟, قلت ليهم الدفع عند الدخول).
خرج الدكتور من مكتبه للصالة, وطلب من انتصار أن تُريَه الأسماء ... فلما نظر للأسماء رسم ابتسامة محبطة على وجهه, وجلس على الكرسي القريب وقال:
ــ (ياخي ده مقلب, لو كلمتيني من الأول ما كان ده حصل كلو, ديل أصحابي وهسة بكونوا في الحِلّة, يللا مع السلامة, أنا إتأخرت شديد ).
قاد سيارته تجاه القرية بعد اشترى بطيخة كبيرة, جعل يفكر في الغداء والبطيخة ثم اللحاق بهؤلاء الأشقياء على قعدة الكتشينة, حين وصل إلى بيته سلم على زوجته ثم اقترب من دولاب الملابس, وهو يفك أزرار قميص قال:
ــ (جهِّزي لي الغداء, والله جعان جوع شديد, والعواليق ديل سووا فيني مقلب وأخروني في العيادة).
ــ (أجي؟ غدا شنو ؟ أسة الصينية ملاااانة, ولحمة التلاجة كلها سويتا, وشالوها لى بيت عبد الكريم, جاني أبراهيم وقال لي دكتور عبد القادر قال ليك معاي ضيوف وهم قاعدين في بيت عبد الكريم, أزبطي صينية كبيرة, واللحمة الفي التلاجة كلها سوِّيها, وفعلا سويتا وشالوها, يعني إتا ما تغديت؟ )
ضحك بمرارة, وعلم أن المقلب لم ينتهي هناك في المدينة ولكنه وصل للبيت, وقال:
ــ (ده مقلب بس, هسة ما عندك أي حاجة؟)
ــ (والله ولا حاجة, كل شي شالوهو)
ــ (خلاص خلاص, كدي أقوم ألحقهم, ممكن يكونوا خلو لي حاجة)
حين وصلهم, وجد الصينية نظيفة ليس فيها شيء سوى بقايا العظام وقطع الرغيف الصغيرة, عندما رأوه إدعوا عدم الإهتمام وانهمكوا في لعب الكتشينةكأن شيئا لم يكن,
جلس على السرير, وقال:
ــ (سويتوها يا حيوانات؟ على الأقل ياخي خلوا لي خاجة أتغدا بيها ... والله بالغتو)
بدات الضحكات تعلو, ورد عليه عبد الكريم صاحب البيت:
ــ (خلينا ليك عيشة, قلنا إتا بتحب الرغيف بالشاي)
تعالت الضحكات على قول عبد الكريم, أما هو فابتسم ابتسامة المغضب, وأضمر في نفسه ا|لإنتقام فلم يتمالك نفسه أن قال:
ــ (طيب اصبروا لي, علي الطلاق ما أخليكم بيها)
في ذلك الحين تسلل عبد الكريم لداخل بيته بصورة طبيعية, وهمس لابنه في الصالة وأمره أن يذهب إلى بيت دكتور عبد القادر ويقول لزوجته الدكتور قال ليك قطعي البطيخة كلها وختيها في صينية كبيرة وأديني ليها سريييييع .. يلللا أمشي ... أوعاك تتأخر .. وتعال من الباب التاني وخش بيها على مطبخنا ... !!
بعد قليل جاء ابن عبد الكريم بالصينية, فحملها عبد الكريم ودخل على الشلة, وجلس بالصينية بالقرب من دكتور عبد القادر وقال:
ــ (الناس ديل صعبين خلاص, غايتو الليلة مقلبوك جنس مقلب, كدي يا زول برِّد بطنك بى البطيخة دي, إتعوض ليك حاجة على الأقل)
هجمت الشلة على البطيخة وفي دقائق لم يكن هناك منها شيئا في الصينية سوى الحبوب.
لم يكن للدكتور مزاج في اللعب, فجلس يراقب فقط, حتى إذا قارب الوقت من المغرب قاموا ليذهبوا, فلحق عبد الكريم بالدكتور على باب الحوش, وهمس له:
ــ (على فكرة البطيخة الأكلناها قبل شوية, دي بطيختك, رسلنا جبناها من بيتك)
توقف الدكتور متجمدا ينظر لعبد الكريم الذي ابتسم ابتسامة واسعة, وقبل أن يهجم عليه الدكتور كان قد أغلق بابه.