[1]
جلس رجال الحي كعادتهم في بيت العمدة
تحت شجرة الجميز الكبيرة أمام الديوانية في إنتظار الفطور،وكان من بين الحضور حاج محمود صاحب الدكان وعم الطاهر البصير وإسماعيل شيخ مزارعي العمدة ومأذون الحي وإمام المسجد شيخ فرح وغيرهم ..
وبينما القوم جالسون في إنتظار صواني الفطور التي تأتي من بيوتهم ، دخل عليهم هيرون الصغيرون خازن الأسرار وناقل الأخبار بملبسه المشهور والتي تتكون من طاقية حمراء وعراقي وسروال وسديري يكاد يغطي نصف جسده ...
توجه هيرون الصغيرون وهويلهث إلى حيث مجلس العمدة وأسر إليه بحديثٍ مقتضب وخرج مسرعاً ولم يلو إلى مناداة إسماعيل ..
وما إن سمع العمدة كلام هيرون الصغيرون حتى تغير ملامح وجهه ونادى عبد الكريم وأمره بأن يسرع ويتأكد من الخبر ..
ثم التفت إلى القوم وقال لهم :
الله يستر ،،
شيخ فرح : لاحول ولا قوة إلا بالله، خير إنشاء ؟؟
الجميع بصوت واحد : الله يستر ....
دخل عبد الكريم مسرعاً كما خرج مسرعاً ووقف امام العمدة
وهو يقول : كلام هيرون الصغيرون جد
العمدة : الله لا كسبو ،، يا جماعة الداية حليمة لقت ليها طفلة صغيرة بالقرب من الشفخانة .
حاج محمود : بسم الله الرحمن الرحيم ، كيف الكلام دا ؟؟؟
عم الطاهر البصير: لقو الشفخانة مقفولة ولا شنو؟؟
إسماعيل : طيب وين أمها ؟؟
عبد الكريم : ياجماعة ، الداية حليمة معروفة هي البتتولا أمور التوليد في الحي ، يعني حتى الشفخانة لو ما شغالة هي بتمشي البيت ، لكن البنت دي ما معروفة أمها منو !! الفراشة جات الصباح بدري لي الداية حليمة وقالت ليها أنا لقيت البنت دي جنب الشفخانة وكان راقد جنبها كلب ناس شيخ فرح .
شيخ فرح بفزع : أفو!! كلبنا زااتو ؟؟؟
العمدة : ياجماعة يلاكم نشوف الحاصل شنو !
وخرج الجميع من بيت العمدة الذي يقع على التل في وسط القرية واتجهوا نحو الشفخانة التي يفصلها عن بيت العمدة ميدان كبير يجمع فتيان وفتيات الحي في ليالي السمر .
وعندما وصلوا إلى الشفخانة كان حاج أحمد العدو اللدود للعمدة قد ربط حماره على عمود جوار الشفاخة ، وما أن وقع عينه على العمدة صاح بصوته الجهوري : ياحليل البلد ، الرجال ياكلو وينوموا وما جايبين خبر الدنيا .
أسماعيل : ياراجل صلي على النبي
حاج أحمد : أللهم صلي على النبي ،، وإنتو كمان عاملين كبار البلد ؟؟
لم يتكلم العمدة ، وفي لحظات كان الجميع داخل الشفخانة ، ولما رأى عبدو الممرض العمدة وباقي المجموعة أسرع نحوهم لإستقبالهم يسلم عليهم .
فقال له حاج أحمد : الداية حليمة وينا ؟؟
عبدو : في العنبر
الطيب بهدوئه المعهود : بالله يا عبدو لو هي فاضية ناديها لينا
وفي ثواني كانت الداية حليمة بقامتها الطويلة وبثيابها النظيفة وهي تلتحف بطرحة تغطي شعرها ونصف جسدها كانت تقف أمام العمدة وجماعته .
العمدة : الحاصل شنو ياحليمة ؟؟
حكت حليمة كيف أن الفراشة جاءت إليها في الصباح الباكر وأخبرتها خبر الطفلة .
العمدة : أمها منو ؟
حليمة : الله أعلم !!
حاج أحمد بحدة : والبنت وينا
حليمة : في العنبر ، نضفناها وختيناها ..
وبعد أن ألقوا نظرة على الطفلة خرج الجميع وهم مذهولون وغير مصدقين ما سمعوا وما رأوا .....
وقبل أن ينتصف النهار كانت القرية كلها قد علمت خبر الطفلة
حتى الذين خرجوا في الصباح الباكر إلى مزارعهم في الجزيرة وفي الجروف لمواصلة عملية حصاد الفول وصل إليهم الخبر بواسطة هيرون الصغيرون ..
زينبية إمرأة فارعة الطول محافظة على جمالها وذكائها ، تهتم بنظافة بيتها وزريبتها يومياً ، بعد وفاة زوجها رفضت أن تتزوج أي رجل ، حتى العمدة حاول أن يتزوجها لكنه عجز أمام رفضها إهتمت بتربية إبنها الوحيد ، وعُرفت في الحي بحكمتها وشجاعتها وكيف تواجه المصاعب وكيف تقف أمام تسلط الظالمين من الرجال والنساء ، لذا كان جميع أهل الحي يحترمونها ويشاورنها في الأمور المستعصية ....
عندما سمعت زينبية خبر الطفلة لم تستعجل الذهاب إلى الشفخانة بل توجهت إلى بيت العمدة ووجدت العمدة وجماعته وحاج أحمد عدو العمدة اللدود واجمين من هول المفاجأة غير قادرين على عمل شئ ..
زينبية : السلام عليكم
الجميع : عليكم السلام أهليين زينبية ..
العمدة يجلسها في كرسي خشبي أمامه مباشرة ويسألها :
هل سمعتي الخبر ؟؟
ــ نعم . وما جابني ليك إلا خبر الطفلة .. عملتو شنو؟
ـــ والله ما عملنا حاجة !!!!!
ــــ إنتو رجال البلد وكبارو ما عملتو حاجة ؟ هسع الخبر ينتشر في الأحياء القريبة والناس بتعيركم .
حاج أحمد بحدة : زينبية هسع دايرانا نعمل شنو؟؟
شيخ فرح بحياء : دا دوركم يازينبية تفتشو أم الطفلة ..
العمدة : إنتِ رايك شنو يا بتي .
أخرجت زينبية حقتها من جيبها ووضعت قليل من العطرون والتماك في فمها وصمتت برهة وهي تلوك ما وضعتها في فمها حتى إستقرت في مكانها ثم قالت وهي تعيد الحقة إلى جيبها :
شوف ياالعمدة أول حاجة وقف هيرون الصغيرون في حدو قبل ما يطلع الخبر برة الحي ، وبعد داك رسل لي القصاص عشان يجي يقص الأثر ،
والكلام دا ما يوصل المأمور ..
العمدة : خلاص الخبر طق كل البلد
زينبية: بس ما طلع برة البلد
إسماعيل : والقصاص حيعمل إيه بعد ما الناس مسحوا الأثار
زينبية : دا شغلو وهو عارف بيعمل شنو ..
ثم بعد حديث وحوار طويل إستأذنت زينبية للذهاب وخرجت قاصدة الشفخانة وهناك إلتقت بالداية حليمة التي كانت منهمكة في عملها دون أن تشغل نفسها بحديث الناس عن الطفلة..
فقط إهتمت بتغذيتها ونظافتها وإنقاذ حياتها ...
وعندما وصلت زينبية الشفاخنة كانت مجموعة من نساء الحي قد خرجن لتوهن والتقين عند الباب الرئيسي وكانت من بين النساء زوجة العمدة التي لا تطيق زينبية ، فبادرت زوجة العمدة زينبية قائلة :
جاية آخر واحدة مالك .
زينبية بهدوء : أن ما كنت فاضية من الصباح ، وبجيكي بعدين في البيت.
ثم دخلت إلى الشفخانة حيث الطفلة المجهولة تحت عناية الداية ......
زينبية :ست حليمة سلام
ــ مرحباً حاجة زينبية
ـــ البنت دي مصيرها شنو
ــــ علمي علمك
ــ أسمعيني كويس ياست حليمة ،، الناس بقت ما عندها ضمير وفي القرية ما في مرة معروفة نقدر نتهمها وننسب ليها البنت دي ولازم تتربى والزمن حيكشف كل شئ .
ـــ ما فاهمة شئ !!!
ـــ حليمة إنت والفحل راجلك ما عندكم جنا .. وأنا ديراكم تربو البنت دي وتكونوا لقيتو أجر ..
وتفاجأت الداية حليمة من كلام زينبية لأن كل النساء اللاتي أتين لرؤية الطفلة لم يقلن لها مثل هذا الكلام بل كن يرمين التهم هنا وهناك ويتندرن ؛ ولكن كلام زينبية رغم مرارتها وجدت موقعاً في قلبها وسُرَّت بها لأنها كانت تعرف حكمتها ودهاءها لكنها كتمت فرحتها عن زينبية التي أيقظتها بسؤالها :
قلت شنو يا ست حليمة ..
حليمة : زينبية إنت عارفة الناس ما بترحم وإنت عارفة الفحل مابيرضى الكلام دا .
ـــ لو على الفحل خليهو لي
ــــ والعمدة ؟
ـــ أنت وافقي وخلي أي حاجة علي ..
ــــ والله حرام بنت بريئة زي دي أنا أخليها !!
بدت علامات الرضى على وجه زينبية فأخرجت مبلغاً من المال وناولته للداية التي رفضت أخذ أي مقابل لكنها أخذته على مضض تحت إصرار زينبية التي أرادت أن تستر البنت وكان هذا هو همها منذ سماعها الخبر ..
ثم خرجت زينبية ....
وإجتمع رجال الحي في المساء لأداء صلاة المغرب في المسيد ثم تناول طعام العشاء كعادتهم والإنصراف إلى مضاجعهم لأخذ راحتهم...
لكن تلك الأمسية لم تكن كباقي الأمسيات حيث أمر العمدة بدعوة جميع أهل الحي للحضور في المسيد لأمر هام .
حضر جميع رجال القرية وجلس الشباب في ركن من أركان المسيد في إنتظار الأوامر وخدمة الكبار ....
وقبل مجيئه كان العمدة قد دعى الفحل زوج الداية حليمة
وأخبره خبر الطفلة وطلب منه أن يتولى تربيتها هو وزوجته
ففرح الفحل بطلب العمدة لأنهما لم ينجبا منذ أن تزوجا قبل خمسة وعشرين سنة !!
جاء الفحل إلى حي العمدة مع والده وهو صغير في حياة العمدة الكبير
بحثاً عن عمل . وتوفي والده وتركه مع العمدة الذي تولى تربيته
فأحبه أهل البلد وبادلهم حباً بحب ، فكان يتعاون معهم في كل ما يطلبونه منه وتعلم الزراعة وأصبحت يده خضراء فكان الناس يستعينون به في مواسم زراعة الفول والقمح ليرمي لهم الحب ..
ولأن الداية حليمة قد فاتها قطار الزواج ولم يرغب فيها أحد أبناء الحي
لكبر سنها فطلب العمدة منها أن تتزوج الفحل فوافق والدها ووافقت وتم زواجهما كما يتم زواج جميع أبناء البلد بإقامة الولائم والإحتفالات ...
وكان العمدة أيضاً قد نهي هيرون الصغيرون عن الخروج بالخبر إلى خارج الحي ..
وبعد أداء صلاة المغرب ألتف الجميع حول العمدة وكبارات البلد وقد داهمهم الصمت والترقب ..
نهض العمدة وبعد أن صلى على النبي قال :
ياناس كلكم سمعتوا خبر المولودة االصغيرة ، وأمها وأبوها لي هسع ما معروفين،وزي ما عارفين أول مرة يحصل في الحي جنس العمل دا ، والزمن حيكشف لينا كل شئ .
ونحن يا ناس عشان البنت دي ما عندها ذنب إتفقنا مع الداية حليمة وراجلا الفحل عشان يربوها وتبقى زي بتهم ..
قام حاج أحمد عدو العمدة اللدود وقال : الكلام دا عيب مننا كلنا ونحن الخبر دا لو طلع برة البلد ما بنقدر نمشي للناس .
حاج محمود: خلاس ياناس نحن البنت دي نعاملا زي أولادنا وبناتنا ونسترا ..
عبد الكريم : ياخوانا خلاس إتفقنا على الكلام دا وأي كلام ما يطلع برة الحي وكلمو النسوان والبنات في البيوت عشان يقيفوا مع الداية حليمة ويهتمو بالبنت دي .
نادى العمدة شيخ فرح والطاهر البصير وكان هو الكاتب المعتمد وأمرهم أن يكتبوا في الصباح ما دار في هذا الإجتماع وأمر شيخ فرح أن يرفع الفاتحة ويختم الإجتماع وبذا يكون الناس قد اتفقوا على كل ما قيل في الإجتماع ثم نادى الفحل وناوله صرة فيها شئ من المال وإختار الفحل إسم شامة للمولودة تيمناً بوالدته ودعا الناس للكرامة ......
ترعرت شامة في منزل الفحل وزوجته حليمة مغمورة بالحب والحنان ليس لهما همٌ سواها يغدقان لها الهدايا ويبذلان في سبيلها كل غالي ونفيس.ملأت حياتهما سعادة وحبورا ،لايجدان في فراقها فرحاً أو سرورا
غنت لها فتيات الحي :
شامة ياشامة يابسامة
شامة صغيرة ياسلامة
يازينة يا حمامة ياشامة
بنت الرجال حلاتا
حفظت نساء الحي هذا المقطع وصرن يرددنها أثناء تأدية أعمالهن من نظافة العيش أو كنس المنازل أو غير ذلك ..
وفي هذا الجو بدأت ملامح شامة تظهر وكانت زينبية أكثر من تلاحظ ملامح شامة لكثرة زيارتها لبيت الداية حليمة وكانت تلحظ ان هناك فتاة تأتي بين الفينة والأخرى مع بعض فتيات الحي لبيت الداية وكانت أكثر من تلاعب شامة وتأتي لها بالهدايا !!!!
وكانت تقول في نفسها : العِرِق دساس
كان فتيان الحي يجلسون في الميدان أو الفسحة التي بين منزل العمدة والشفخانة بعد أن يقضو يومهم في المزارع وفي قضاء أعمالهم ليتسامروا ويستأنسوا ويتلقون أخبار بعضهم البعض، وكان هيرون الصغيرون من بين الجلساء المداومين لايغيب عن هذه الجلسات أبداً ، وإذا تحدث كان الجميع يصمت ويبدأ حديثه بمقولته المشهورة .. أنا هيرون الصغيرون كاتم الأسرار وناقل الأخبار ..
وذات ليلة دار الحديث حول شامة بعد أن غنى النور بطمبوره أغنية شامة
وزاد عليها بعض الكلمات .
وكان هيرون الصغيرون قد التقط بعض الأخبار عن شامة ،،،
لكنه كان يكتمها خوفاً من العمدة ومن بطشه
فقال : الظلم ظلمات والزاني يُزنَي ولو بجدار بيته .
يا ناس؛ الإنسان الحرامي لازم ينسرق ، والإنسان النصيح لازم يمرض والدنيا ما دوامة !!
أحد الجلوس : ياهيرون إنت سمعت حاجة والا شنو؟؟
ـــــ خلوها مستووورة . والليل غطى الجبال .
أخرج هيرون علبة التمباك التي لا تفارقه ورمى كمية من التمباك في فمه ثم أردف قائلاً :
بكرة كلكم حتسمعوا الخبر !
عندما سمع السمار كلام هيرون هذا بلغت قلوبهم الحناجر وإشرأبت أعناقهم لسماع المزيد ، وأرخوا آذانهم لأنهم يعلمون أن عند هيرون الخبر اليقين ، فهو مسموح له بالدخول في أي مجلس سواء كان مجلس رجال أو مجلس نساء فهو يقدم خدماته للجميع فهو الذي يطحن عيش بعض الأسر وهو الذي يكسر الحطب وينظف جريد النخل وهومرسال الجميع ...
وسمع هيرون فيما يسمع ،همس بعض النساء بأن شامة فيها شبه من بنت العمدة !!
ولكن كما كانت أولئك النسوة حذرات من البوح بأي كلمة كان حال هيرون لايختلف عنهن فهو يخاف من العمدة ومن زوجة العمدة ..
ومرت الأيام وشبت شامة بين أحضان حليمة وزوجها الفحل لاتعرف أبوان سواهما ولا تعلم ما يدور في الحي بشأنها ، تلعب مع قريناتها في الحي ببراءة ، وتجلب الماء مع أمها حليمة كما تفعل الصبايا مع أمهاتهن وتأتي إلى دكان حاج محمود لشراء بعض المستلزمات وكان الجلوس أمام الدكان يمازحونها ويضحكون من لكنتها